Monday, 15 January 2007

أزمة حركة فتح ومنظمة االتحرير : رؤية من الداخل

أزمة حركة فتح

محمد مشارقة – لندن
يجانبه الصواب كل من لا يرى في الزلزال الذي احدثته الانتخابات التشريعية الفلسطينية فاصلا بين زمنين وتحولا نوعيا في الخارطة السياسية الفلسطينية لا زالت مفاعيل ارتداداته جارية ولما توقفت آثاره بعد، كما ويخطيء ايضا من لا يزال يعتقد ان بامكان قوى منظمة التحرير وفي مقدمتها فتح استعادة زمام المبادرة والعودة الى الحكم بعدتها القديمة، بعد ان وجه الشعب لها وعبر عملية انتخابية نزيهة حتى لا نقول ديمقراطية ضربة في الرأس لن تستفيق منها بالمكابرة والتبرير والبحث عن شماعات لتعليق الاخطاء عليها، ولا التمسك بآخر اوهام خشبة الخلاص على اهميتها، مؤسسة الر ئاسة ومنظمة التحرير، تلك الرؤى التي يؤمل منها ان تكون الجسور التي تعود بها فتح ظافرة الى مقاعد الحكم، ان اشاعة هذه الافكار والوصفات الساذجة من شانها اعفاء الجميع من الانخراط في عملية المراجعة الجدية العميقة والناقدة لحقبة كاملة من المسيرة الفلسطينية.
ان فوز حركة حماس بغالبية مقاعد المجلس التشريعي، وضع فصل الختام على مرحلة سياسية كاملة قادتها حركة فتح منذ نهاية الستينات من القرن الماضي، وفتح الباب واسعا لاعادة تشكيل معالم مرحلة جديدة على اسس وقواعد تستند الى جملة من المتغيرات التي حصلت عالميا واقليميا ومحليا ،منها :
1. حقبة جديدة في العلاقات الدولية تحت عناوين مكافحة الارهاب والتطرف الاسلامي قادها المحافظون الجدد في الولايات، وجدت تعبيرها في احتلال العراق وافغانستان، واطلاق العنان لمنطق استخدام القوة في مناطق اخرى من العالم، بغطاء ترسانة ايديولوجية دينية متطرفة، وهو ما استثار مروحة واسعة من التعبيرات الاسلامية الاصولية بتياراتها التكفيرية والجهادية وصولا الى تيار الاعتدال والوسطية، تيارات استقطبت قطاعات واسعة من الفئات الوسطى متعلميين ومهنيين واكاديميين مطحونة بمحدلة التطور الراسمالي، وشروط صندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، قطاعات باتت النواة الصلبة الادارية والسياسية والثقافية للحركات الاسلامية بكل اطيافها.
وتجدر الاشارة هنا الى ان ظهور الاسلام الراديكالي العنيف في عداوته للغرب شجع اوساطا اكاديمية وسياسية في الولايات المتحدة في الدعوة الى غض النظر عن دور محوري لتياراسلامي معتدل في مواجهة التطرف .
2. الازمة الخانقة للنظام الرسمي العربي ومعه معارضاته القومية والليبرالية والاشتراكية ، نظام فشل في الحفاظ على السيادة والاستقلال والتنمية وتحريرالارض المحتلة، ولم يقدم سوى تجارب فذة في الفساد وتبديد الثروات الوطنية، ولم يستفد من منجزات العصر والحداثة سوى في بناء اجهزة القمع والتسلط على رقاب وعقول المواطنين، هذا في الوقت الذي كان فيه التيار الاسلامي يبني قواعده ويغرس جذوره في بنية ناقمة ومقهورة ومغيبة عن المشاركة، لتستفيق الانظمة الحاكمة ومعارضاتها على شبكة واسعة من المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية تديرها الحركات الاسلامية وتغرف منها رصيدها الانتخابي وتعزز بها نفوذها وسط شرائح وفئات المجتمع كافة، بما فيها الفئات العاملة والمهمشة التي كانت مصدر قوة التيارات اليسارية في الخمسينات والستينات.
3. المراجعات المتقدمة التي قامت بها بعض الحركات الاسلامية لتجربتها العملية في العقود الماضية، والتي تقول صراحة برفض استخدام العنف كوسيلة للوصول الى الحكم والقبول بنتائج صندوق الاقتراع وبمبدأ تداول السلطة سلما، واحترام الاطر الدستورية القائمة، مراجعات باتت ترى في التجربة الماليزية والتركية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، نموذجا يمكن البناء عليه، كما ان الجهود الفكرية الفذه لبعض المثقفين المسلمين، ساهمت الثورة التقنية وعالم الانترنت في تعميمها، زودت هذه الحركات بمعين فكري كبير، سهل لها النزول من عالم السماء الى الارض، من عالم الدعوة الاخلاقية لاصلاح المجتمع والدعاء لولاة الامر بتسديد الخطى الى الدخول في حقل الممارسة العملية بالحكم المباشر.
على هذه الارضية ومنها يمكن الانطلاق في الحكم على ان ما جرى فلسطينيا لم يكن حالة عابرة ومنفصلة عن سياقها التاريخي. وان صعود حركة حماس الى سدة القيادة في بؤرة الصدام الاول مع المشروع الاستعماري بكل ما تحمله هذه البؤرة (فلسطين ) من مثقلات دينية وقومية لها دلالاتها العميقة وأكلافها الباهظة، فقد وضع هذا الصعود المفاجيء كل القوى الاسلامية التي انتعشت في اشتداد معركة الصدام الثقافي مع الغرب امام مسؤولية كبيرة لن تبخل في مد درة تاجها حركة حماس بكل اسباب العيش والاستمرار.
فتح الازمة البنيوية
تميزت حركة فتح باعتبارها اطارا وطنيا مفتوحا تجنب ومنذ البداية اعتناق ايديولوحية او فكر سياسي وتنظيمي محدد، رغم ان المؤسسين جاؤا من خلفيات سياسية وفكرية مختلفة قوامها الاساسي القومي والبعثي والاخواني، وشكلت السنوات العشر الاولى الذهبية من تاريخها، ردا مبدعا على الهزيمة العربية الاولى والثانية، واعطت املا وروحا جديدة للمناضلين الفلسطينيين والعرب، بامكانية النهوض والمقاومة، ورغم حالة الصدام العنيف مع الانظمة الرسمية التي لم يرق لها استقلالية الفلسطينيين في اخذ زمام المبادرة لبدء حرب تحرير شعبية الا ان فتح لم تراجع تجربتها السياسية والتنظيمية وظلت في بنيتها الداخلية تقوم على خليط من المنطلقات الاخلاقية والنضالية البسيطة تدور حول فكرة مقدسة هي النضال من اجل التحرير، التصقت قيادتها بقواعدها، عاشت همومها ومعاناتها.
شكلت مرحلة منتصف السبعينات منعطفا مهما في تاريخ حركة فتح، فقد تدفق الريع النفطي بعد الثورة الهائلة في الاسعار وبات مصدرا اساسيا لتمويل الحركة، وتمويل الحرب الاهلية اللبنانية او لمواجهة صعود تيارات اليسار عربيا وعالميا، استفادت فتح من الفورة النفطية بتوسع هائل في قاعدتها التنظيمية والادارية والعسكرية والاعلامية، ساعدها في الاطباق على خناق منظمة التحرير ومؤسساتها ومكنها من بناء شبه دولة في المنفى قاعدته جيش من الدبلوماسيين والاداريين والاعلاميين، وطفى على سطح الحركة نخب جديدة ارتقت الى موقع بين منزلتين الثورة والدولة، حملت معها قيم وسلوكيات هجينة تجمع بين سمات رجال الاعمال والثوار، لكن المعايير منذ ذلك الوقت اختلفت، ذوت معها قيم الطهارة الثورية والنزاهة والزهد والتواضع لصالح البذخ والفساد المالي والاخلاقي والمحسوبية والفهلوة وشراء الذمم، وتوسعت حالة التذمر والاحباط لدى قطاعات واسعة في الحركة لم ينقذها سوى ارئيل شارون بغزو لبنان واخراج قوات منظمة التحرير وتشتيتها.
وتدريجيا بات الزعيم عرفات يمسك بمعظم الخيوط التنظيمية والمالية منها على وجه الخصوص، يوزع المسؤوليات على عدد من الابوات المفاتيح الذين بدورهم ارتبطوا بشبكة من الانصار والمريدين على اسس لم تكن سياسية وفكرية دائما، بل في غالبيتها تقوم على المناطقية والجهوية والعشائرية، ومع الانشقاق الشهير الذي قاده ابوخالد العملة وابوموسى وسميح كويك وابوصالح في 1983 وكذا اغتيال ماجد ابوشرار في روما، وضع فصل الختام على ما تبقى من استقطابات على اسس سياسية وفكرية .
بانتقال مركز القيادة الفلسطينية الى تونس، واستشهاد القادة المؤسسين ابوجهاد وابواياد تمكن ياسر عرفات من الامساك وبصورة مطلقة بكامل الصلاحيات، وجاء مؤتمرالحركة الخامس ليرسم بالخاتم الرسمي حالة الخراب وانقلاب المفاهيم والقيم (التي وجدت تعبيرها الواضح في تشكيلة المجلس الثوري واللجنة المركزية)
وعلى صعيد العمل في الارض المحتلة التي كانت تدعى بالقطاع الغربي، زحفت موازين القوى الجديدة على هذا الجهاز بعد استشهاد قائده خليل الوزير ابوجهاد، وشهد عملية تصفية منظمة، حيث ابعدت الكوادر الرئيسية عن موقع القرار والعمل الميداني، وجرى اعتماد الاتصال الرأسي والتمويل المباشر بعيدا عن اللجان المناطقية، وهكذا وعلى قاعدة الاستزلام والولاء المرتبط بالمصالح الشخصية، تصدر المشهد السياسي في الارض المحتلة رموز بات ولاؤها المباشر لمموليها بعيدا عن قاعدتها او وزنها التنظيمي او الاعتبارات النضالية المتعارف عليها.
مع عودة القيادة من منفاها التونسي الى الداخل، انتقل ارث الادارة الفتحاوية وتقاليدها وقيمها الى الداخل، وبات الابوات والمفاتيح التنظيمة هم الماكينة الحزبية التي جرى الاعتماد عليها في الخارج، جرى استقطاب الاشخاص الذين ارتبطوا بالخيوط التونسية ليكونوا القنوات الى القاعدة الشعبية، ولتنظيم الولاءات والنفوذ للقادمين الجدد، وقد كوفئ هؤلاء بمنحهم الامتيازات الوظيفية في جهاز السلطة، وهكذا رحل المناضلون القدامى/الموظفون الجدد من الفئات العليا والوسيطة في الادارة الحكومية، الى العاصمتين الاداريتين غزة ورام الله تاركين خلفهم زملاءهم في النضال وعائلاتهم في مخيمات وقرى وبلدات البؤس والفقر والحرمان، لكن هذه الفئة صارت محط حسد وكراهية محيطهم الاجتماعي السابق، ومع تعطل مسيرة التسوية وانحطاط مستويات المعيشة وزيادة معدلات البطالة، والاغلاقات الاسرائيلية والحصارالدائم، كان السخط والاحباط الشعبي يزداد يوما بعد يوم.
شخص فريد واحد كان بامكانه فقط ان يدير هذه الشبكة من المصالح والادوات هو ياسر عرفات، الذي تمكن عبر شبكته القديمة والجديدة من الاستمرار في ضبط ايقاع الشارع وامتصاص غضبه وردات فعله على ممارسات ازلامه، عبر نظام من الهبات والاعطيات الشهرية التي يوزعها من خلال الوكلاء وفق نظام " يصرف له "، ينتظر هذا المندوب او الوكيل الفرصة المناسبة كي يفوز بتوقيع الرئيس، والذي يبدا بمئة دولار وقد يصل الى عشرات الاف، وترتفع مكانه المندوب في اوساط الجماعة بحسب قدرته على تامين التواقيع للصرف او الخدمات، ولم يكن هذا النظام ليقوى من النفوذ التنظيمي للحركة، بل لتعزيز المكانة الشخصية لهؤلاء الوكلاء، وهكذا قد لا يتمكن امين سر اقليم في حركة فتح من تامين توقيع كشف المساعدات من الرئيس بينما كان النجاح يحالف اشخاصا لا وزن ولا مكانة لهم سوى قربهم من احد الابوات النافذين. فقط ياسر عرفات كان بامكانه ضبط الايقاع في السلطة والمنظمة وفتح بكفاءة عالية بل ونادرة. فقد وزع الادوار والاموال والمواقع وخبر جيدا اثقال رجاله، وامسك بمقادير النظام الذي فصل على مقاسه تماما، وهكذا ارتبط التقدم والتطور، الصمود والمقاومة، المساومة والتراجع، الفساد والمحاسبة، كل ذلك باسمه وبتوقيعه، ولهذا لم يكن مستغربا ان يصل الجميع داخليا وخارجيا الى خلاصة مرة، أن لا امل في التغيير ما دام الرئيس عرفات على قيد الحياة، وساهم الموقف الاسرائيلي والامريكي الذي انقلب على عملية السلام في ادامة الجمود والعطالة في الحياة الفلسطينية، خاصة وان عرفات ربط غير مرة اجراء الاصلاحات باستكمال فرض السيادة على باقي الارض الفلسطينية التي حاصرها الاحتلال بالحواجز والاستيطان لتتحول الى معازل عنصرية حقيقية، فاودعت المناطق الفلسطينية في حالة من الترقب والانتظار، انتظار الظروف المحيطة او تدخل الهي كما كان يجيب عدد كبير من قادة السلطة وفتح على سؤال الاصلاح.
تدخل القدر فعلا ورحل عرفات الزعيم التاريخي والمادة الصمغية التي حافظت على لحمة الوضع الداخلي برمته، ومع رحيله انهارت البنى الفلسطينية جميعا من فتح الى منظمة التحرير، والسلطة وبات الحل السحري الذي يقول به الخلف محمود عباس هو المأسسة لفتح والمنظمة والسلطة .
كل ذلك جرى وحماس تبني سلطتها الموازية لبنة لبنة، بمنظومة شاملة من المؤسسات المدنية والعسكرية التي انغرست عميقا في الحياة اليومية الفلسطينية في الداخل وفي الشتات، ولهذا لم يكن انتصارها مفاجئا الا لمن اصابه صمم.
فتح واعادة عقارب الساعة الى الوراء
السؤال اليوم: هل يمكن اعادة عقارب الساعة الى الوراء، في تقديري ان الامر ولى الى غير رجعة، فالحديث يجري عن وحدة فتح، في غياب الموحد او ترميم آليات عمل لا وجود لها اصلا، فهي لم تكن يوما ومنذ عقود ثلاثة تنظيما حقيقيا يمكنه استئناف حياته بصورة طبيعية.
ربما كان ذلك ممكنا اثناء وجود فتح في السلطة وحولها جيش كبير من المنتفعين وبيدها كل قوى منظمة التحرير وهي مستوطنة بين شعبها وعلى ارضها. اما وبعد ان فقدت السلطة بمغانمها ومفاسدها فلا شيء يوحدها ويؤمن استمرارها بالصورة القديمة والاليات التقليدية، لقد كان تشكيل قائمة "المستقبل" لتمثيل جزء من فتح في الانتخابات التشريعية بمثابة الطلقة الاخيرة للجيل الجديد على آبائه بعد سلسلة الطلقات على اللجنة المركزية والتي تحول بعضها الى دمى للحرق في شوارع غزة. مايجمع فتح اليوم ماض من صفحات مشرقة لم يعد كافيا للتوحيد خاصة وان فصل الختام لهذه المسيرة لم يصنع انتصارا ولا سيادة بل حكما ذاتيا مشوها لا دور متروك له سوى القيام بحراسة المحتل.
ما الذي يوحد ثلاثة تيارات اساسية في فتح: قاعدة عريضة في السجون والاجنحة المسلحة والمواقع التنظيمية الريفية اساسا هي اقرب سياسيا وفكريا وقيميا الى حركة حماس وتيار اخر في النخبة الفتحاوية الاولى والوسيطة يؤمن حقا بالتسوية السلمية والاستمرار في الحفاظ على ما تحقق من منجزات والبناء عليها والقول بالمقاومة بكل اشكالها داخل المناطق المحتلة وهؤلاء اقرب في الواقع الى تيارات اليسار والمجتمع المدني، اما التيار الثالث فهو موجود في النخبة السياسية التي تتقاطع مع رأسمالية محلية وكيلة وادارات المؤسسات الاهلية وهو لا يرى غير الالتحاق والتطابق مع المشروع الامريكي الاسرائيلي على قاعدة الشراكة السياسية والاقتصادية لان هذا هو المتاح في عصر السيادة الامريكية على مقدرات الكون. ان التعبير السياسي عن هذه التيارات يمكن التأشير على مقولاته و تم التعبير عنها بوضوح حتى في زمن حياة الزعيم عرفات .
ان من يراهن على امكانية تحويل الحركة سريعا وبمؤتمر الى تنظيم عصري يحتكم الى المؤسسات والتعددية السياسية والفكرية واهم تماما، لان حجم التدخلات الخارجية والاغداق المالي على فتح سيضاعف حجم الاستقطاب غير المبدأي داخلها (ايران، دول الخليج، اوروبا، الولايات المتحدة، واسرائيل).
لقد استعارت حماس كامل برنامج فتح التاريخية، ويمكنها ان تلتزم بالنزاهة ونظافة اليد والادارة الرشيدة بصورة مقنعة افضل من تجربة فتح لان بامكانها في ميدان الخدمات الاجتماعية ان تسحب قطاعا واسعا من اسر الشهداء والاسرى والجرحى والايتام والمفقرين والمهمشين، وقد فعلت ذلك من خارج السلطة، ولهذا ليس بمقدور فتح منذ اليوم ان تنافس حماس في ملعبها، كما ان اعادة بناء مؤسسة فتح على اسس الوسطية والانفتاح والحداثة يحتاج الى فترة اختبار طويلة فالشعوب لا تنتقل في خياراتها بين ليلة وضحاها، كما ان على الناس ان يلمسوا تغييرا مبدعا وجديا حتى يعيدوا النظر بموقفهم من الاسلاميين، ولا بد من متغير دولي واقليمي يسهل على فتح استعادة دورها وبرنامجها وشعاراتها وهو ما لا يبدو في الافق القريب. مع ادارة بوش والادارة الاسرائيلية القادمة.
مصدر القوة الرئيس لفتح اليوم هو الميدان السياسي الواقعي الذي يتقاطع مع الارادات الدولية الذي لا زالت تقول بمركزية القضية الفلسطينية في سلام الشرق الاوسط ، لكن أفق الميدان السياسي مغلق بل ومصدر ضعف لفتح في المرحلة المنظورة على الاقل، بعد تعطلت العملية السياسية وسلمت مقاليدها الى يد الحكومة الاسرائيلية، وسيتضاعف هذا الامر مع تسلم حماس مقاليد السلطة، فالقوى الدولية تهدد جديا بالاستراحة من مسؤولياتها بعد ان استبدلت كل اطر عملية السلام وفق الاتفاقات والقرارات الدولية من اتفاقات اوسلو وواشنطن والقاهرة ومبادرات ميتشل وتينيت بخارطة الطريق المثقلة باربعة عشر لغما وضعها شارون بموافقة امريكية.
نحو صيغة مانديلا في المؤتمر الوطني :
لا حاجة بنا الى القول ان الوضع الذي آلت اليه فتح ينطبق على فصائل منظمة التحرير جميعا، فلم تتمكن هذه الفصائل التي اعترضت على اتفاقات اوسلو من الزام اعضاءها بقرار تنظيمي يمنع الالتحاق بسلطة وصفوها بـ"التفريط والخيانة"، وادى العصيان التنظيمي الى انهيارات لكادر اساسي ومفصلي التحق علنا وبدعم من عرفات بالسلطة، ثم تراجعت هذه الفصائل وعادت تحت يافطة حضور جلسة المجلس الوطني في غزة عام ستة وتسعين لتطالب بحقها من حصة الصندوق القومي لمنظمة التحرير بعد ان باتت المصدر الرئيس لتمويل هذه الفصائل، واصبح عرفات الممول الرئيس بورقة الصرف الشهرية للانفاق على المكاتب والمتفرغين والاعلام لهذه الفصائل، وهو الامر الذي الحقها واقعيا بسلطة عرفات، وازال الفروق بينها وبين فتح، بل ودخلت هذه الفصائل وعلى مدار سنوات في مساومات مع الرئيس عرفات لاستيعاب مناضليها في مؤسسات السلطة وفق كوتات ومراتب مدنية وعسكرية محددة.
لقد كشفت الانتخابات التشريعية عن حقيقة ان الهم السياسي الوطني لا زال مركزيا وموجها كما كشف عن ان الحكم النزيه والرشيد سواء في المستوى المحلي او الوطني مسألة متلازمة وأساسية في خيار الفلسطيني امام صندوق الاقتراع .
في مثل هذه الظروف تبدو فتح في وضع صعب، سواء اختارت الانضمام للحكومة او اختارت البقاء في المعارضة، فآليات العمل الداخلية التي ضبطها ياسرعرفات لا يمكن استحضارها مجددا بعد رحيله، ولم يتوفر الوقت الكافي لابداع اليات جديدة تؤطر التعدد والتنوع والخلاف، ولهذا يبدو ان اقل الاضرار الوطنية والتنظيمية هي في المشاركة في حكومة حماس، لتأمين عبور النفق الانتقالي الى صيغة جديدة وكذا تجاوز مخاطر الجمود في العملية السياسية.
أما الرهان على استعادة مكانة المنظمة وبعث الحياة فيها فهو ضرب اخر من الاوهام التي يتمسك بها البعض داخل فتح واليسار كخشبة خلاص، فالمنظمة شاخت منذ زمن، والقوى المشكلة لها لم يعد لبعضها وجود على الارض وانفضح امرها في الانتخابات المحلية والتشريعية الاخيرة، عدا عن ان امتدادات المنظمة في المنافي والشتات تحولت في العقد الاخير الى هياكل وهمية حلت مكانها دينامية تديرها حماس بشبكة معقدة من المصالح والمؤسسات المدعومة من تيار الاخوان المسلمين الدولي.
اليوم وبعد فوز حماس لم يعد ممكنا الحديث عن موافقتها على عرض حصة 40% من مقاعد المجلس الوطني وقيادة المنظمة فهي (حماس) تسير على خطى حركة فتح ومناوراتها للاتحاق بالمنظمة بين اعوام خمسة وستين وتسعة وستين والتي انتهت بالسيطرة المطلقة على المنظمة، ولا يخفى ان اللجوء الى اي شكل ديمقراطي حقيقي واجراء الانتخابات في الاماكن الممكنة في المنافي يفضي واقعيا الى نتائج محسومة سلفا لصالح حماس في ظل غياب فتح وحلفائها عن الساحات الخارجية وتوقفها عن العمل في الاردن وسوريا، كما ان المنظمات الشعبية ذراع فتح في المنافي والشتات انتهت بصورة مريعة منذ ما يزيد على خمسة عشر عاما.
ولهذا نقول بحزم ان لا جدوى من النفخ في قربة مثقوبة ولا استعجال احياء منظمة التحرير في الظروف الحالية قبل ان تتمكن فتح من التقاط انفاسها وترتيب صفوفها لان هذا الاستعجال يعني ببساطة اهداء منظمة التحرير بعد السلطة الى حركة حماس، ان فتح مدعوة اليوم اذا ارادت الاستمرار في الحياة السياسية الى الانخراط في ورشة عمل حقيقية صريحة وشفافة من اجل تقييم جدي للمسيرة الماضية بمشاركة كل الوطنيين من اجل ابداع افكار جديدة تطلق الحيوية والنشاط بهدف الخروج من الازمة الذاتية البنيوية، تحرك ذو شقين: الاول داخلي للوصول الى توافقات الحد الادنى من صيغة عصرية تحتمل القبول بالتعددية والمنابر السياسية في الاطار الواحد وآليات تنظيمية تؤمن حماية هذه التعددية وتنوع اشكال النضال، اما الشق الاخر فله صلة بالمسؤولية الوطنية عن مجموع الحركة الفلسطينية بتعبيراتها المختلفة اليسارية والقومية والدينية المستنيرة، التي دخلت هي الاخرى في مرحلة التشرذم والموات، مطلوب من فتح الخروج الى الحلفاء من اجل تجاوز الازمة والاقتراح هنا صيغة ائتلاف عريضة تستمر عدة سنوات قبل الاندماج الكلي، صيغة المؤتمر الوطني الفلسطيني بما يشبه الى حد بعيد المؤتمر الوطني الافريقي بقيادة نلسون مانديلا، صيغة تجمع بين المتدينين والعلمانيين والوطنيين القوميين تقوم على رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة تقنع اعضائها وجمهورها والشعب بان شيئا قد تغير.
ان المرحلة في جوهرها لا زالت تحمل سمات ومهمات التحرر الوطني ذو الابعاد الاجتماعية، واذا ما توفرت الارادة السياسية والاعتراف بحجم المأزق والمخاطر فان فتح يمكنها تقديم البدائل وتجاوز الازمة بما يعيد تشكيل الحركة الوطنية على اسس جديدة، بدائل تنقذها من ذاتها وتنقذ الفصائل المتحالفة معها من تشرذمها وضعفها، عل ذلك يعجل في اخراج الوضع الفلسطيني من ازمته ويوقف مسلسل التصفية الزاحف سريعا على كامل المشروع الوطني، ان سقوط السلطة بقيادة حماس لن يكون في مصلحة فتح ولا فصائل منظمة التحرير، لانها لم تعد تشكل بديلا مقنعا. فالبديل هو عصابات مسلحة في المدن تشكل اداراتها المحلية وتفرض الامن والنظام على الطريقة الصومالية وهو بالضبط ما تريده اسرائيل.

No comments: